حلمت في ذات ليلة بأنني ملكٌ في احدى العصور,قد ورّثتُ الحكمة برغم ضلالتي..أراني أسير مغمض العينين بين صفوف الجواري لا أكترث كثيراً إن ذلت قدماي..أقطن في إحدى زوايا قصور شهريار وأستقي القسوة كل ألف ليله وليله..قويٌ أنا رغم ضعفي..أملك من الحكمة ما لا يضاهي تمردي..
اليوم..سأقلب الأحداث..وسأذج في أحضان سطوري شيئاً من الرحمة لتسكت شهرزاد..
فوق تلة صغيره..
كنت أرى الغيوم تحتشد لتقيم إحتفالاً جديداً تزفُ به الأميره..
نادى الطقس القابع فوق أهداب الجبال حراسه بأن إستعدوا لعزف مقطوعة الأجيال..
فتقدمت النجوم,وتفرقت..وأبرق أعينها تلوح بالخجل..لترتعش ستائر الليل,وترتسم علامات الذهول فوق قمم الجبال وهي تبحث عن القمر..
أين تراه إختفى؟!
هل ترك مكانه رهينةً للأقدار؟أم أنه قد فضل العزلة على أن يرى أحداً يسلبه دوره في مسرحية القاتل والمقتول؟
زاد الذهول والتهجس..وكثرت التساؤلات والضجيج..إلا أن أشار الرعد بإصبعه...فصفقت الغيوم,ودقت الريح طبول الأفق معلنةً عن بدء الحدث..
فران الصمت..
وإغتسل النسيم من غبار السفر وجاء على مقربةً مني وهو يلهث.. فبدأ صراع الفصول..بردٌ وبرقٌ ورعد..
وقلوبٌ تخفق تنبأُ بإقتراب الأميره..وصوت رعشة الماء فوق هامات الصخور تتزاحم لتجد مكاناً لها في المسرحيه..وهمسات مرتجفه..وويلاتُ الإنتظار تقتلع البقيه..
وخيالٌ ينبثق من بعيد يلوحُ بإبتسامه..
فإتجهت الأنظار نحو الضيف القادم من بعيد..
فبانت شهرزاد..
وإنتحرت الأنوار,وأزهرت السماء وروداً تتسارع لتزين فستانها الممتد كمدينه..تقدمت شهرزاد..ومزقت أوتار القصيده..فبعثرت اثارها خلفها,وحملت القمر الحزين في راحتها وإبتسمت..قالت:
"بلغني أيها الملك العظيم ذو القلب الحزين أن الزمان إذا ما قسى على المرء منحه زهرة..ليشد بها عيدان صبره المتهالكه فتمازحه الظروف"..
تنهد القمر..ونظر في مجرات عينها فأدمن الإعجاب,وخفق قلبه بقسوه فقال:
"رفقاً أميرتي فقلبي يكاد أن يتمزق.." وأشار إلى كرسيه وقد حفته الجواري..بأن" أذهبي فهذا مرقد الجمال"..
وجلست شهرزاد..
فذبت مع قطرات المطر حد النخاع..أشارت نحوي .. فتقدمتُ واللوعة تنهش مني الصلابه..ومسافات من لهفة الموعد تنتظرني.. أحسست بالأعين تنظر نحوي وقد إمتلئت بأطنان من الشك وريبة الحسد والإعجاب..
وزاد الطريق من سرعة إبتعاده..حتى حسبته يسابقني الى لقياها..
عثرني الحجر,وأطالت الأشجار أذرعها لتحجب عني الرؤيا,وكشر الرعد عن أنيابه لما إقتربت من مقصدي..
فأشارت بكفها..
فجمدت الحياة إلا قلبي..فما إحتملت الصبر على ضعفي..فكدت أن أهزم كبريائي ويقين الموعد يقترب من حافتي عيني..
فشددتُ نفسي,ورفعتُ رأسي,وأسرتُ قطيعاً من الهواء تمنى الخلاص مني وزججتُ به في سراديب سجون صدري..وأطلقتُ سراحه بعد حين..
نظرتُ أمامي..فبان شعرها..
ولكأنه إنسياب قصيدة..أو كأنه الماء حين يمر خجلاً من بين الأصابع..
تقدمتُ خطوة..
فأشرقت عينها..ولكأنني لمحت فيهما تاريخ مدينة تمتد على ضفتي ساحل عسلي وتستقي منهما الدلال..
نطقت بالشهادة..
وأغمضتُ عيني..وواصلت المسير,الى أن سكنت الاقدام وهمسة اللهفة والخوف في أذني بأن"إفتح عينك الأن"..الصوت بدأ يعلو ويعلو..
مُحال..أويستحيل الأمرعن الكتمان؟!
أدرك بأنني سأسقط جثةً هامدةً إن رأيتُ ظلها..سأصبح ورقةً سوداء يحاول الناس فهم ماضيها ومستقبلها..لن أجازف لن انتحر..يكفني أنها بقربي الان..وسانتظر النهايه..
نظرت نحوي,وأمالت رأسها في دلال والإبتسامة تأكل من خديها النضاره..
قالت: تفضل..
فإرتدتني الكلمة ولكأنها وشاح عروس يأخذه الريح فوق جناحي الرهافه..
جلستُ بقربها..والوقت والليل في عيني يورثانني الصلاده..
قالت: لما أنت مغمضٌ عينيك؟!
قلت: أعشق العتمة والظلال..
قالت: لما؟
قلت: لأنني أرى فيهما قمراً ونورا..
قالت: كلنا نعشق طلته ونوره..ولكن لما لا تنظر فتجدد عشقك وضياءك؟
قلت: أخشى إن فعلت..أبدل عشقي بإمراة أضاءة الشمس وأطفأت لهيبها..
أحسست بأنها قد إبتسمت..أو هكذا أخبرني قلبي..
قالت: ماذا عندك؟
قلت: بلغني ايتها الملكة الجميله..صاحبة العقل والبصيره..أن السماء إن أمطرت..وأن الارض إن أنبتت..وأن الزهور إن أثمرت..وأن الهموم إن أضحكت..والسعادة أحزنت..فإن في القلب سجانٌ ورهينه..
قالت: أعجز عن فهمك,ولكن أوليس هو العشق؟
قلت: العشق دوارٌ وسفينه..
قالت: فأخبرني عن الجمال..
قلت: محال!!!
قالت: لما!!
قلت: يعجز الهمس أن يدرك قمم الجبال..
قالت: أما من وصف تجود به على أميرة التلال؟
قلت: إن زارني خيالك لحظةً..فسيكف العقل عن الترحال..
قالت: إذن فأخبرني عن الرجال..
قلت: هم دخانٌ يحمل هموم الأجيال..
قالت: والنساء؟
قلت: ويحي من الوباء..حبٌ للذات,غرورٌ وحياء,ألمٌ ودواء..
قالت: فأخبرني عن الوفاء..
قلت: صمودٌ وعناء..
قالت: أوليس الكبرياء عناء؟
قلت: هو خوفٌ وشموخٌ وفداء..
قالت: والدلال..
قلت: اه من بحيرة المرجان,لكأنها تعكس في مراياها صورة جنين الليل وهو ينام..
قالت: وماذا عن قوة النساء؟
قلت: مكرٌ ودهاء..
قالت: لما لا تكف عن هدم البناء..؟!
قلت: أنا لا أهدم يا أميرتي..بل اني أحاول إبعاد الأرض عن السماء..
قالت: حسناً..فلتخبرني عن حواء دون كذب منك أو إفتراء..
قلت: حواء هي الداء..هي النبض والحس والإباء..هي الصوت الجميل والغناء..هي شهرزاد..هي الشعر والقصيدة والرثاء..
قالت: لما كل هذا البكاء؟!
قلت: البكاء حنينٌ وحسٌ للأشياء..ورحيلٌ وعودة..وإبتسامة حبيب تعيد تجديد الهواء..
قالت: أأحببت يوماً؟
قلت: أجل..
قال: صفها لي ولا تزدها..
قلت: لم تجرؤ عيني على رؤيتها..
قالت: أوتشبع الكواسر قبل أن تجد ضالتها؟
قلت: بل يعجز العاشق عن الوقوف في ساحتها..
قالت: محال!! لقد أسرتك في قبضتها..!
قلت: بل أنا من سجنت نفسي في قلاع مفاتنها..
قالت: لما الرثاء إذن؟
قلت: أخشى إذا ما العمر أفل..والصبح عن الظهور إرتجل..أن لا أرى قمر عينها وشعرها المنساب كالمطر..
إستعطفت..وأبرقت عيناها..ومالت بكفها على يدي تتحسسها,فذبتُ في مسامها وتجردتُ من عزيمتي..فملكتني الرعشة..
قالت:مابالك ترتعش؟!
فلت: كيف لا يرتعش الشجر وقد مر النسيم متهالكاً على أوراقه كمحطات السفر..!!
صمتت..وأدرك اليقين قلبها, فإبتسمت..
قالت:هل لا أزحت العصابة عن عينيك؟
قلت: لن يطاوعانني..
قالت: فأمرهما..
قلت: العاشق لا يأمر..بل يستجدي العطاء..
قالت: فتوسل إليهما..
قلت: فإن فعلا..فسأقتل..وستكونين قاتلتي..
فبكت..وألهبت الدنيا بحرارة شوقها, وأدركت الحقيقة قلبها.. فملئتها الرغبه..
قالت: فلتعلم إذن أني أحبك..
(ولكأنني أشرق على مجرة جديده..فإنتهت المعركه..وإجتاح الغزاة قصور عيني..فخسرت القضية والأرض..)
نظرت نحوها..ورأيتها..فتسمرت عيني..وإبتسم قلبي..
فقلت: إن السماء إن أمطرت..إن الأرض أن أنبتت..إن الزهور إن أثمرت..وإن الهموم أن أضحكت,والسعادة أحزنت..فلتعلمي.. أن النساء سجنٌ وجلادٌ ورهينه..
وسكتت شهرزاد..وكانت نهاية المسرحيه